إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر، هي: العقل والبدن والروح.
وأشرف هذه العناصر الثلاثة الروح التي هي نفخة غيبية من عند الله “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً”.
وقد رتب الله على هذه العناصر الثلاثة عناصر الدين فجعل الإسلام لمصلحة البدن، والإيمان لمصلحة العقل، والإحسان لمصلحة الروح، وجعل التكامل بين هذه العناصر والتوازن بينها مطلوباً، فلا يكون الإنسان سوياً مستقيماً إلا بالاعتدال والتوازن بين هذه العناصر، فلا بد من العناية بها جميعاً والسير بها في خط متواز، حتى لا يحصل ميل أو اعوجاج في هذه النفس البشرية، فإن من مال إلى أحد هذه العناصر دون غيره وأولاه عناية على حساب الجوانب الأخرى كان إنساناً معوجاً غير مستقيم.
وأهم هذه الجوانب وأشدها خطراً هو عنصر الإحسان الذي لا يكمل إيمان المسلم إلا به، وعنصر الإحسان إنما يتعلق بتزكية النفوس(1).

تعريف التزكية وبيان المراد بها :
التزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان:
المعنى الأول: التطهير، يقال زكيت هذا الثوب أي طهرته، ومنه الزكاء أي الطهارة.
والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكى المال يزكوا إذا نمى ومنه الزكاة لأنها تزكية للمال وزيادة له(2).
وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي لتزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين :
أ – تطهيرها من الأدران والأوساخ، قال في الظلال : التزكي التطهر من كل رجس ودنس(3).
ب – تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة(4).
وعلى هذا المعنى جاءت الآيات القرآنية بالأمر بتزكية النفس وتهذيبها، قال الله تعالى : “قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى” وقال سبحانه “…ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” يقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآيات : يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله كما قال قتادة، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة، كقوله تعالى: “قد أفلح من تزكى” “وقد خاب من دساها” أي دسسها وأخملها ووضع منها بخذلانه إيّاها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، ويحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى الله نفسه وقد خاب من دسى الله نفسه(5) هذا عن تعريف التزكية، أما النفس فقد ورد في القرآن الكريم وصفها بثلاث صفات : المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء، وقد اختلف الناس هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها، أو للعبد ثلاثة أنفس : نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة.
فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين، وهو قول محققي الصوفية، والثاني قول كثير من أهل التصوف، والتحقيق أنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها، فالنفس المطمئنة : هي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره، فاطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى ضمانه وكفايته وحسبه، وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين.
وأما اللوامة: (فهي النفس اللؤوم التي تُنَدِّم على ما فات وتلوم عليه) كما قال ابن عباس وقتادة.
وأما الأمارة: فهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل؛ فإن أطاعها قادته إلى كل شر وقبيح، ولم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة والعدل والعلم طارئ عليها بِإِلْهَامِ فاطرها.
فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة، فإذا أراد الله بنفس خيراً جعل فيها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالتها التي خلقت عليها من الجهل والظلم(6).

حكم تزكية النفس:
ذهب الغزالي رحمه الله إلى أنها فرض عين على كل مؤمن ولو لم يكن متحلياً بالأخلاق الذميمة، فيلزم كل أحد أن يتعلم أمراض القلب وكيفية تطهيرها.
وذهب الجمهور إلى أنه ليس فرض عين إلا في حق من تحقق أو ظن وجود مرض من الأمراض فيه، فيلزمه حينئذ تعلم سبل علاج ذلك المرض، وقالوا إن تعلم أمراض القلوب فرض كفاية على الأمة عامة وليس فرض عين على كل أحد، وقد استند الغزالي في رأيه هذا إلى أن الأصل عنده في الإنسان هو وجود هذه الأمراض وليس السلامة منها، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر قد شق الله صدره مرتين وأخرج منه المضغة السوداء التي هي محل هذه الأمراض في الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم احتاج إلى ذلك فغيره من باب أولى، واستدل الجمهور بأن الأصل في الإنسان السلامة من هذه الأمراض لقول الله تعالى: “فطرة الله التي فطر الناس عليها” وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).
وأدلة الجمهور أوجه وأقوى كما ترى.
ولكن قد جمع الشيخ محمد الحسن – حفظه الله – بين هذه الأدلة بأن حمل دليل الغزالي على أن الذي في عامة بني آدم هو القابلية لهذه الأمراض لا وجودها، وبالتالي يكون الشق بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس علاجاً لمرض موجود وإنما هو منع للقابلية، فهو العصمة التي لا يمكن أن يحل بعدها شيء من هذه الأمراض(7).

أهمية تزكية النفس للإنسان:
والتزكية مهمة للإنسان من عدة أوجه :
1 – أن الله عز وجل – وهو الحق وقوله الصدق – أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه وعلى خسران من أهمل ذلك، قال تعالى: “والشمس وضحاها..”.
2 – أن النفس من أشد أعداء الإنسان الداخليين لأنها تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، وسائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانبها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرها كثيراً، كما في خطبة الحاجة(8) وكما في حديث أبي هريرة عند ابن أبي حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ “فألهمها فجورها وتقواها” فقال: “اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها” وفي المسند والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم علم حصين بن عبيد أن يقول “اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي”.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اتفق السالكون على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها والظفر بها(9).
قال بعض العارفين : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم(10).
3 – أن التزكية طريق الجنة، قال الله تعالى: “وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى” فهي إذن شرط لدخول الجنة.
4 – أن الإنسان محب للكمال فينبغي لـه أن يعمل على إكمال نفسه بتزكيتها وتربيتها، فهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب بها الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة ومحتاجة إلى رعاية، ومحتاجة كذلك إلى متابعة للازدياد من الخير كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف، فلذلك احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه، ويعلم أنها وعاء إيمانه، وأهم ما عنده هو هذا الإيمان، فإذا سلبه فلا فائدة في حياته، فلا بد من العمل على تنمية هذا الإيمان وزيادته عن طريق تزكية هذه النفس وتهذيبها(11) يقول سيد قطب رحمه الله : إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد مزدوج الاتجاه، بمعنى أنه في طبيعة تكوينه : من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، وهو لذلك مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى أيهما أراد، وهذه قدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها…” ويعبر عنها بالهداية تارة “وهديناه النجدين” وإلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعدادات الخير فيها وتغليبها على استعدادات الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”(12).

أقسام تزكية النفس:
تنقسم تزكية النفس إلى قسمين رئيسين هما: التحلية، والتخلية.
فالتخلية: يقصد بها تطهير النفس من أمراضها وأخلاقها الرذيلة.
وأما التحلية: فهي ملؤها بالأخلاق الفاضلة وإحلالها محل الأخلاق الرذيلة بعد أن خليت منها.
فالأخلاق الرذيلة مثل : الشرك والرياء، والعجب، والكبر، والبغض والحسد، والشح والبخل، والغضب، والحرص على الدنيا وحبها لذاتها وإيثارها على الآخرة، والفضولية وعدم الجد في الحياة….
وأما الأخلاق الفاضلة فكالتوحيد والإخلاص والصبر، والتوكل والإنابة، والتوبة، والشكر، والخوف والرجاء، وحسن الخلق في التعامل مع الناس، والشفقة عليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ونفعهم بقدر المستطاع، وعدم تغيير قلوبهم بما ليس بلازم شرعاً…

إذن فلا بد للإنسان أن يتعرف على الأخلاق الذميمة وعلى أسبابها ويعلم أنها موجودة لديه حتى يمكنه التخلص منها فإن من لم يشعر بالمرض ويتعرف على أسبابه لا يمكنه علاجه، ولكي يستطيع الإنسان الانتصار على نفسه ينبغي لـه أن يضع أسساً للتعامل معها في ثلاث محاور :
1 – الإنصاف منها، وعدم تبرئتها فقد كان صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه وهو المعصوم المسدد بالوحي.
2 – ترك الانتصاف لها من الغير بأخذ الثأر لها والانتصار لها، فإنها ظلومة جهولة، وإذا كانت هي المظلومة فقد قال الله عز وجل “ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور”.
وقال سبحانه : “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي…”.
3 – اتهامها دائماً، فإنه إذا لم يتهمها الإنسان أغوته وقادته إلى التهلكة، فأنت مخير في الوجهة التي ترتضيها لنفسك، فإذا سرت وراءها وأطلقت لها الزمام سارت بك إلى أسفل سافلين، وإن قدتها أنت وطمحت بها إلى المراتب العالية انقادت لك وراء ذلك، فهي كالطفل تماماً كما يقول البصيري:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على ** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فإذا عامل الإنسان نفسه على هذا النحو ملكها واستطاع توجيهها نحو الخير، فإذا دعاها إلى عبادة انقادت لـه واستسلمت، وإن دعيت إلى شر وجدت تأبياً ونفوراً عنه، أما الذي لا يعالج نفسه هذا العلاج ولا يجتهد في مجاهدتها عما تهوى وتحب، فإنه إذا دعاها إلى العبادة نفرت، وإذا رأت أنه سيحملها على طاعة من الطاعات شردت، مثل الدابة تماماً، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، وكذلك النفس إذا عودها الإنسان على ترك هذه الأخلاق الذميمة كانت كالدابة المطيعة المنقادة، يحمل عليها ما شاء وتسير به حيث شاء، أما إذا تعودت على هذه الأخلاق الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب فإنها تكون شروداً حرونا إذا احتاج إليها لم يستطع إمساكها، وإذا أحست بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه، فلا بد من مراقبة هذه النفس ومتابعتها، وليختبر متى استعدادها للأوامر وانصياعها للخير باستمرار : فإن الذي إذا سمع النداء حي على الصلاة حي على الفلاح أخذه النعاس وبحث عن الوسادة نفسه ما زالت مريضة لم تنقذ له بعد، والذي ينام على فراشه إذا تعار من الليل لم يستطع أن ينتصر على نفسه فيستيقظ ويذكر الله ويتوضأ ويصلي حتى تحل عنه عقد الشيطان، نفسه ما زالت مريضة تحتاج إلى علاج، والذي لا تطاوعه نفسه إذا أراد صوم النفل أو إنفاق المال أو أراد أي عمل خير لا تطاوعه نفسه ما زالت مصابة بمرض عضال مخوف لا بد من علاجه قبل فوات الأوان، فلا بد أن يضع الإنسان نفسه في قفص الاتهام وأن يحملها على العزائم وإلا قادته هي إلى المهالك ومهاوي الردى(13).

وسائل تزكية النفس:
وأما الوسائل التي يتوصل بها إلى تزكية هذه النفس وتهذيبها، فمنها وسائل مجملة ووسائل مفصلة :
فأما الوسائل المجملة فنذكر منها :
1 – العمل على تطهير النفس من أخلاقها الرذيلة التي ذكرنا بعضها كالرياء والعجب والشح والبخل، والحرص والطمع، والأمن من مكر الله…
2 – تحليتها بالأخلاق الحميدة الفاضلة بعد أن أصبحت جاهزة لها بتخليها على الأخلاق الدنيئة، وهذه الأخلاق هي مثل : الإخلاص، والإنابة، والخوف من الله، والشكر، والتواضع….
3 – المحافظة على الفرائض، لأنها أفضل طاعة يتقرب بها العبد إلى مولاه “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه”.
4 – الإكثار من النوافل لقول الله عز وجل: “…ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…” وأعظمها تأثيراً في تزكية النفوس هو ما كان منها أكثر مذلة وخضوعاً لله عز وجل.
5 – تدبر القرآن، فهو جلاء القلوب وإذا صفى القلب زكت النفس، ففي الحديث : ((إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد قيل وما جلاؤها قال : تلاوة القرآن وذكر الموت)) (14) وقد قال الله عز وجل: ” كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته” وقال سبحانه “أفلا يتدبرون القرآن…”.

Leave a Reply